الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
أبدأ باسم الله مستعينا *** راض به مدبرا معينا (أبدأ) في جميع حركاتي وسكناتي، وأقوالي وأعمالي، وفي شأني كله، ومنه هذا التصنيف (باسم الله) متبركا و(مستعينا) به، أو إياه بالباء وبدونه، أي طالبا منه العون على فعل طاعته، وترك معصيته، كما قال تعالى معلما لنا في فاتحة الكتاب: (إياك نعبد وإياك نستعين)، (الفاتحة 5)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. وهو خطاب شامل لجميع الأمة، وفي ضمن ذلك الأمر الواقع في جواب الشرط نهي لنا عن الاستعانة بغير الله عز وجل؛ لأنه لا خالق للعباد وأفعالهم غيره تعالى، فإذا كان المخلوق لا يقدر على فعل نفسه إلا بما أقدر الله تعالى عليه، فكيف يجوز أن تطلب الإعانة منه على فعل غيره، والعاقل يفهم ذلك بادئ بدء.
والكلام على تفسير البسملة مستوفى في كتب المفسرين، ولنذكر خلاصة ذلك فنقول: الباء أداة تخفض ما بعدها، ومعناها في البسملة الاستعانة، وتطويلها في القرآن تعظيما لكتاب الله عز وجل، وإسقاط الألف من الاسم؛ طلبا للخفة لكثرة استعمالها، وقيل لما أسقطوا الألف، ردوا طولها على الباء؛ ليدل على السقوط، ولذلك لما كتبت الألف في (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، (العلق 1)، ردت الباء إلى هيئتها، والاسم هو المسمى وعينه وذاته، فإنك تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، فتدعوه بأسمائه التي سمى بها نفسه، كما قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)، (الأعراف 180)، وقال تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى)، (الإسراء 110)، ولو كانت أسماء الله غيره، لكان الداعي بها مشركا إذ دعا مع الله غيره ولكانت مخلوقة، إذ كل ما سوى الله مخلوق، وهذا هو الذي حاوله الملحدون في أسماء الله تعالى وصفاته، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وسيأتي بسط القول في ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام على الأسماء. (الله) علم على ذاته تبارك وتعالى، وكل الأسماء الحسنى تضاف إليه، كما قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى)، وقال تعالى: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)، (طه 8)، ألا ترى أنك تقول: الرحمن من أسماء الله تعالى والرحيم من أسماء الله ونحو ذلك , ولا تقول: الله من أسماء الرحمن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة. واختلفوا في كونه مشتقا أو لا. ذهب الخليل وسيبويه وجماعة من أئمة اللغة والشافعي والخطابي وإمام الحرمين ومن وافقهم إلى عدم اشتقاقه؛ لأن الألف واللام فيه لازمة، فتقول: يا الله، ولا تقول يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة، لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام. وقال آخرون: إنه مشتق، واختلفوا في اشتقاقه إلى أقوال، أقواها أنه مشتق من أله يأله إلاهة، فأصل الاسم الإله، فحذفت الهمزة وأدغمت اللام الأولى في الثانية وجوبا، فقيل الله، ومن أقوى الأدلة عليه قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض)، (الأنعام 3) مع قوله عز وجل: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)، (الزخرف 84)، ومعناه ذو الألوهية التي لا تنبغي إلا له، ومعنى أله يأله إلهة: عبد يعبد عبادة، فالله المألوه، أي المعبود، ولهذا الاسم خصائص لا يحصيها إلا الله عز وجل. وقيل إنه هو الاسم الأعظم. (الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، فالرحمن يدل على الرحمة العامة، كما قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى)، (طه 5)، والرحيم يدل على الرحمة الخاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما)، (الأحزاب 47)، ذكره ابن جرير بسنده عن العزرمي بمعناه، وفي الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. والظاهر المفهوم من نصوص الكتاب والسنة أن اسمه الرحمن يدل على الصفة الذاتية من حيث اتصافه تعالى بالرحمة، واسمه الرحيم يدل الصفة الفعلية من حيث إيصاله الرحمة إلى المرحوم، فلهذا قال تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما)، (إنه بهم رءوف رحيم)، (التوبة 117)، ولم يأت قط إنه بهم رحمن، ووصف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه رءوف رحيم، فقال تعالى: (حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)، (التوبة 128)، ولم يصف قط أحدا من خلقه أنه رحمن، فتأمل ذلك والله أعلم. (راض) خبر لمبتدأ محذوف تقديره وأنا راض (به) أي بالله عز وجل- (مدبرا) حال من الضمير المجرور، أي بتدبيره لي في جميع شئوني، فإن أزمة الأمور بيده، وهو الذي يعلم ما لا نعلم، ويقدر ما لا نقدر، وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما)، (الطلاق 12)، و(معينا) لي على جميع أموري الدينية والدنيوية، فإني لا أقدر إلا على ما أقدرني عليه، ولا علم لي إلا ما علمنيه، فلا أعبد إلا إياه، ولا أستعين إلا به، ولا أتوكل إلا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه.
والحمد لله كما هدانا *** إلي سبيل الحق واجتبانا أي (و) أثنى بحمده فأقول (الحمد لله) كما أثنى به على نفسه في كتابه، فقال: (الحمد لله رب العالمين)، وأمر بذلك عباده فقال تعالى مخاطبا لنبيه خطابا يدخل فيه جميع أمته: (قل الحمد لله)، (النمل: 59)، فله الحمد كالذي يقول، وخيرا مما نقول، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وله الحمد على نعمه الظاهرة والباطنة، وله الحمد في الأولى والآخرة. وعن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن ربك يحب الحمد. رواه أحمد والنسائي. وعن الحكم بن عمير رضي الله عنه وكانت له صحبة قال: قال رسول الله: إذا قلت الحمد لله، فقد شكرت الله فزادك. رواه ابن جرير. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنعم الله على عبد نعمة، فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطي- يعني: من هدايته للحمد- أفضل مما أخذ. رواه ابن ماجه. وللقرطبي عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل، ثم قال الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك. قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى. قال الله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) (الكهف 46). وقال علي رضي الله عنه: الحمد لله كلمة أحبها الله تعالى لنفسه، ورضيها لنفسه، وأحب أن تقال. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحمد لله كلمة الشكر، وإذا قال العبد الحمد لله، قال شكرني عبدي. وقال رضي الله عنه: الحمد لله كلمة كل شاكر، وقال رضي الله عنه: الحمد لله هو الشكر لله، هو استخذاء له، والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك. وقال الضحاك: الحمد لله رداء الرحمن، وقال كعب الأحبار: الحمد لله ثناء الله. وفي معنى الحمد لله وفضلها آثار غير ما ذكرنا لا تحصى، ولما كان من أكبر نعم الله علينا، وأجل مننه الواصلة إلينا هدايته إيانا إلى صراطه المستقيم، الذي هو دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحد غيره، ناسب الثناء عليه بها، فقلت: (كما هدانا) أي على ما هدانا إرشادا ودلالة بكتبه ورسله، وتوفيقا وتسديدا بمشيئته وقدره إلى سبيل الحق، وهو دين الإسلام والإيمان (واجتبانا) له، وبذلك قال تعالى ممتنا علينا وله الحمد والمنة: (واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)، (البقرة 198)، وقال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، (آل عمران 164)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)، (الحج 77- 78)، ولما كان الحمد الخبري أبلغ من الإنشائي لدلالته على الثبوت والاستمرار، قدمته عليه أولا، ثم عطفت عليه الإنشائي جمعا بينهما، فقلت: أحمده سبحانه وأشكره *** ومن مساوي عملي أستغفره. (أحمده) أي أنشئ له حمدا آخر متجددا على توالي نعمه وتواتر فضله، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، (سبحانه) أي تنزيها له عما يليق بنعوت جلاله وصفات كماله، وهذه العبارة تتضمن معنى قوله في الحديث المتفق عليه: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. (وأشكره) على ما أنعم وألهم، امتثالا لقوله عز وجل: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)، (البقرة 152). واختلف العلماء في معنى الحمد والشكر، هل هما مترادفان أو لا؟ فذهب إلى ترادفهما ابن جرير الطبري صاحب التفسير وجعفر الصادق وغيرهما، وذهب جماعة من المتأخرين إلى التفرقة بينهما، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى: الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى، ولهذا قال تعالى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل)، (الإسراء 111)، وقال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور)، (الأنعام 1)، وقال تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة)، (سبأ 1)، وقال تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء)، (فاطر 1)، وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا. ولهذا قال تعالى: (اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور)، (سبأ 13)، والحمد يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه، وفي الحديث: الحمد لله رأس الشكر. فمن لم يحمد الله لم يشكره، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها. والله أعلم. انتهى كلامه- رحمه الله تعالى. (ومن مساوئ) جمع مساءة (عملي) مضاف إليه من إضافة الصفة إلى الموصوف. (أستغفره) السين للطلب أي أطلب منه مغفرة تلك المساوئ، ما تقدم منها وما تأخر، إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة. وأستعينه على نيل الرضا *** وأستمدُّ لطفه في ما قضى. (وأستعينه) أطلب منه العون (على نيل الرضا) أي على فعل الأعمال الصالحة، التي بسببها ينال رضاه أن يرزقنيها، وينيلني رضاه بفضله ورحمته. (وأستمد) أي أطلب منه الإمداد بأن يرزقني (لطفه) بي (فيما قضى) وقدَّر من المصائب، وأن يجعلني راضياً بذلك مؤمناً به، مستيقناً أنه من عند الله، وأن وقوعه خير عندي من كونه لم يقع، وأن يهدي قلبىٍ كما قال تعالى: (ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن اللّه ومن يؤمن باللّه يهدِ قلبه واللّه بكل شيء عليم)، (التغابن اا)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: وأسألك الرضا بعد القضاء. الحديث، فإن ذلك أعلى درجات الإيمان بالقدر، وهو الرضا بالمصيبة. القول في كلمة الشهادة. وبعد إني باليقين أشهدْ *** شهادة الإخلاص أن لا يعبدْ بالحق مألوهٌ سوى الرحمنِ *** مَن جلَّ عن عيب وعن نقصان (وبعد) هو ظرف زماني يؤتى به للتنبيه على ما بعده وفصله عما قبله، ويبنى على الضم لقطعه عن الإضافة، ويغني عن إعادة المضاف إليه ، (إني باليقين) القاطع الجازم بدون شك ولا تردد ، (أشهد شهادة) مصدر مؤكد (الإخلاص) مضاف إلى شهادة من إضافة الصفة إلى الموصوف ، (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن مستكن والتقدير أنه، والخبر (لا يعبد) بضم الياء وفتح الباء بالبناء للمفعول (بالحق) يتعلق بيعبد ، (مألوه) نائب الفاعل ليعبد، ومعناه معبود ، (سوى) أداة استثناء بمعنى إلا (الرحمن) أي لا معبود بحق إلا الله عز وجل، والتقييد بحق يخرج به الآلهة المعبودة بباطل، فإنها قد عبدت، والمنفي هو استحقاق العبادة عن غير اللّه عز وجل لا وقوعها، وهذه هي شهادة أن لا إله إلا الله، ولما لم يمكن في النظم الإتيان بلفظها نظمتها بمعناها، وسيأتي- إن شاء الله تعالى- بسط القول في تفسيرها. (مَن جلَّ) في صفات كماله ونعوت جلاله (عن عيب وعن نقصان)، وهما لفظان مترادفان، فكل عيب يسمى نقصاناً، وكل نقصان يسمى عيباً، واللّه- سبحانه وتعالى- منزه عن ذلك كله، بل له الجلال المطلق والكمال المطلق في ذاته وأسمائه، وصفاته وأفعاله. وأن خير خلقه محمداً *** من جاءنا بالبينات والهدى رسوله إلى جميع الخلق *** بالنور والهدى ودين الحق. (و) أشهد (أن خير) أفضل (خلقه) هاء الضمير يعود على الرحمن ، (محمداً) يدل من خير أو عطف بيان، ومعناه الكثير المحامد، فهو أبلغ من محمود. (من جاءنا بالبينات والهدى) من عند الله عز وجل، هذه الجملة صلة من، وهو محله النصب نعت لمحمد صلى الله عليه وسلم والخبر (رسوله)، الرسول بمعنى المرسل، وهو من أوحي إليه وأمر بالتبليغ، فإن أوحى إليه ولم يؤمر بالتبليغ، فهو نبي فقط، فكل رسول نبي ولا عكسِ ، (إلى جميع الخلق) كافة، قال الله عز وجل: (وما أرسلناكَ إلا كافَّةً للناس بشيراَ ونذيراً ولكنَّ كثرَ الناس لا يعلمون)، (سبأ 28)، وقال تعالى: (قل يا أيها الناسُ إنّي رسولُ اللّه إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا باللّه ورسولهِ النبيِّ الأميِّ الذي يؤمن باللّه وكلماتِهِ واتبعوه لعلكم تهتدون)، (الأعراف: 158). وفي الصحيح من حديث الخصائص: وكان الرسول يبعث في قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. وفيه أيضاً: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النارية. (بالنور) المبين، وهو القرآن الذي قال الله عز وجل فيه: (يا أيها الناسُ قدْ جاءكم برهانٌ من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)، (النساء 174)، وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناهُ نوراً نهدي به من نشاءُ من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم صراط اللّه)، (الشورى 52) الآية، وقال تعالى: (فآمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلناه)، (التغابن 8)، وغير ذلك من الآيات ، (والهدى) الإرشاد والدلالة إلى الصراط المستقيم، (ودين الحق) الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من أحد غيره، قال الله عز وجل: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحقِّ ليظهرهُ على الدينِ كلِّه ولو كره المشركون)، (الصف 9)، وكل من القرآن والرسول والإسلام يسمى نوراً وهدى وصراطاً مستقيما. وكل الثلاثة متلازمة، تقول أرسل الله عز وجل رسوله، وأنزل عليه كتابه بدين الإسلام، وتقول دين الإسلام هو الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وكل منها نور مبين، وهدى مستبين، وصراط مستقيم. القول في الصلاة، والتعريف بالآَل والأصحاب. صلى عليه ربنا ومجدا *** والآل والصحب دواما سرمدا. (صلى عليه ربنا)، قال أبو العالية: الصلاة من الله عز وجل ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، ذكره عنه البخاري. ومنه قوله تعالى: (هو الذي يصَلَي عليكمْ وملائكَتُه)، (الأحزاب 43). وفي الصحيح من الحديث القدسي: وإذا ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم. (ومجَّدا) بألف الإطلاق أي شرفه وزاده تشريفاً وتمجيداً، (والآل) أي آله صلى الله عليه وسلم وهم أتباعه وأنصاره إلى يوم القيامة، كما قيل: آل النبي همو أتباع ملته *** على الشريعة من عجم ومن عرب لو لم يكن آله إلا قرابته *** صلى المصلي على الطاغي أبي لهب. ويدخل الصحابة في ذلك من باب أولى، ويدخل فيه أهل بيته من قرابته وأزواجه وذريته من باب أولى وأولى. (والصاحب) جمع صحابي، وهو من رأى أو لقي النبي مؤمناً به ولو لحظة، ومات على ذلك، ولو تَخللت ردة في الأصح، وهم أفضل القرون في هذه الأمة، وسيأتي في آخر المتن الكلام على فضل بعضهم على بعض، إن شاء الله تعالى. التعريف بموضوع الكتاب. وبعد هذا النظم في الأصول *** لمن أراد منهج الرسول سألني إياه من لا بد لي *** من امتثال سؤله الممتثل. (وبعد) تَقدم الكلام عليه قريباً، أي وبعد الشهادتين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، (هذا النظم) الألف واللام للعهد الحضوري، موضوعه (في الأصول)، والمراد بها هنا أصول الدين من الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وأركان الإسلام: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وما يتعلق بكل منها، والكلام على رسالة نبينا محمد وما يتعلق بها، والكلام في مسألة الخلافة، والاعتصام بالكتاب والسنة، وما تحتوي عليه كل مسألة من ذلك، وسترى- إن شاء الله تعالى- تبيانها مفصلاً (لمن أراد) من المؤمنين (منهج الرسول) سبيله ومسلكه، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة. (سألني... الخ) البيت بيِّن واضح. فقلت مع عجزي ومع إشفاقي *** معتمداً على القدير الباقي. (قلت) جواب سألني، (مع عجزي) عدم قدرتي على ذلك، (ومع إشفاقي) خوفي من الغلط في هذا الباب الذي المسألة منه أكبر من الدنيا وما فيها، وذلك لقصر باعي وقلة اطلاعي، والذي قوى عزمي على ذلك هو كوني (معتمداً) أي متوكلاً (على القدير) الذي لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، (الباقي) الذي كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. مقدمة: تعرُّف العبد بما خلق له، وبأول ما فرض اللّه تعالى عليه، وبما أخذ اللّه عليه به الميثاق في ظهر أبيه آدم، وبما هو صائر إليه. اعلم بأن اللّه جل وعلا *** لم يترك الخلق سدى وهملا بل خلق الخلق ليعبدوه *** وبالإلهية يفردوه (اعلم) كلمة يؤتى بها للاهتمام وللحث على تدبر ما بعدها، والخطاب بها في هذا الموضع لكل المكلفين. (بأن اللّه جل) شأنه، وتنزه عن كل نقص (وعلا) بكل معاني العلوّ (لم يترك الخلق سدى) ولا (هملا)، أي لا يأمرهم ولا ينهاهمِ في الدنيا ولا يبعثهم فيجازيهم في الآخرة، لأنه تعالى في خلقهم إلا بالحق لا عبثاَ ولا باطلًا، بل لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، قال اللّه تعالى: (إنَّ في خلق السماواتِ والأرض واختلافِ اللَّيلِ والنهارِ لآياتٍ لأولي الألبابِ، الذينَ يذكرونَ اللّه قياماً وَقُعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ رَبَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقنا عذابَ النار)، (آل عمران 190- 191). (ربنا ما خلقت هذا) أي الخلق (باطلاً) لا بل الحق، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل، فقالوا (سبحانك) أي عن أن تخلق شيئاً باطلًا تباركت وتعاليت. وقال تعالى: (خلقَ السَّماواتِ والأرضَ بالحقِّ تعالى عما يشركون خلَقَ الإنسانَ من نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبين)، (النحل 3- 4)، يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي، وهو السموات بما حوت، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث، ثم نزّه تعالى نفسه عن شرك من عبد معه غيره، وهو المستقل بالخلق وحده، لا شريك له، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له. ثم نبه تعالى على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة، فلما استقل ودرج، إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه، ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً، وهذا كقوله تعالى: (أوَلم يرَ الإنسانُ أنا خلقناهً من نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبين وضَرَبَ لنا مثلاً ونسيَ خلقه قال من يحيي العظامَ وهيَ رميم قل يحييها الذي أنشأها أولَّ مرةٍ وهو بكلِّ خلقٍ عليم)، (يس 76- 77)، وقال تعالى: (أفحسِبْتُم أنَّما خلقناكُم عبثاَ وأنكم إلينا لا ترجعون)، (المؤمنون 115)، أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منا، ولا حكمة لنا؟ وقيل للعبث، أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم، لا ثواب لها ولا عقاب، (وأنكم إلينا لا ترجعون) أي لا تعودون في الدار الآخرة، لا، ليس الأمر كذلك، إنما خلقناكم للعبادة، وإقامة أوامر الله عز وجل ثم نبعثكم ليوم لا ريب فيه، فنجازي كل عامل بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهذا يقوله تعالى لأهلِ النار توبيخاً وتقريعاً، وتبكيتاً بعدما رأوا الحقائق عين اليقين. ثم قال تعالى منزهاَ نفسه عما حسبوه (فتعالى اللّه الملك الحق) أي تقدس أن يخلق شيئاً عبثاً، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك (لا إله إلا هو رب العرش الكريم)، وقال تعالى: (وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما باطلاً ذلك ظنُّ الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار) ، (ص 27)، يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً، وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه، ثم يجمعهم ليوم الجمع، فيثيب المطيعِ، ويعذب الكافر، وليس الأمر كما يظنه الذين كفروا الذين لا يرون بعثاً ولا معاداَ، وإنما يعتقدون هذه الدار فقط، (فويل للذين كفروا من النار) أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم، ثم بيّن تعالى أنه عز وجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين، فقال تعالىِ: (أم نجعلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعلُ المتّقينَ كالفجار)، (ص: 28)، أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من دار أخرى، يثاب فيها هذا المتقي، ويعاقب فيها هذا الفاجر. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة، والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه، ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا المظلوم من هذا الظالم، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة. وقال تعالى: (أوَلَم يتفكروا في أنفسِهم ما خلقَ اللّه السمواتِ والأرضَ وما بينهما إلا بالحقِّ وَأجَلٍ مسمى)، (الروم 8)، يقول تعالى منبهاً على التفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، فقال تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم) يعني به النظر والتدبر، والتأمل لخلق الله عز وجل الأشياء من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدىً ولا باطلاً بل بالحق، وأنها مؤجلةً إلى أجلٍ مسمى، وهو يوم القيامة، ولهذا قال تعالى: (وإنَّ كثيرا من الناسِ بلقاء ربهم لكافرون)، (الروم 8)، وقال تعالى: (خلق اللّه السَّماواتِ والأرضَ بالحق)، (العنكبوت 44)، أي للحق وإظهار الحق، لا على وجه العبث واللعب، (إن في ذلك) أي في خلقها (الآية) أي لدلالة (للمؤمنين) على أنه تعالى المتفرد بالقدر والخلق، والتدبير والإلهية. و قال تعالى: (خلق اللّه السماواتِ والأرضَ بالحق) أي بالعدل (ولتجزى كل نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون)، (الجاثية 22). وقال تعالى: (وما خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما إلا بالحق) أي لا على وجه العبث واللعب، (وأجل مسمى) أي وإلى مدة معينة مضروبة، يعني يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السماوات، وهو الإشارة إلى فنائهما. وقال تعالى: (أيحسبُ الإنسانُ أن يتركَ سدى)، (القيامة 36). قال السدى: يعني لا يبعث. وقال مجاهد، والشافعي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني لا يؤمر ولا ينهى. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: والظاهر أن الآية تعم الحالين، أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة. (بل خلق) الله تعالى (الخلق ليعبدوه) عز وجل بما شرعه على ألسنة رسله، وأنزل به كتبه، (و) مع عبادتهم إياه لا يشركون بعبادته أحداً كائنا من كان، بل (بالإلهية يفردوه) دون ما سواه، فمن عبد الله تعالى ألف سنة ثِم أشرك به لحظة من اللحظات ومات على ذلك، حبط جميع عمله، وصار هباءً منثوراَ، حيث أشرك مع الله في عبادته من هو مثله مخلوق لعبادة الله عز وجل، قال الله تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون)، (الذاريات 56)، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أي إلا لآمرهم أن يعبدون وأدعوهم لعبادتي. يؤيده قوله عز وجل: (وما أمِروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)، (التوبة 31). وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إلا ليعبدون، إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً. وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج ومجاهد: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس: أي إلا للعبادة طوعاً أو كرهاً، وقال السدي: من العبادة ما ينفع، ومنها ما لا ينفع ، (ولئن سَألتهم مَنْ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ اللّه)، (لقمان 25)، فهذا منهم عبادة، ولا ينفعهم مع الشرك. وقال الضحاك: المراد بذلك المؤمنون. اهـ. من تفسير ابن كثير. وقال الكلبي، والضحاك، وسفيان: هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين، يدل عليه قراءة ابن عباس: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ- من المؤمنين- إلا ليعبدون)، ثم قال في آية أخرى: (ولَقَدْ ذرأنا لِجهنَّم كثيراً من الجنِّ والإنس)، (الأعراف 17)، وقال بعضهم: وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. وهذا معنى قول زيد بن أسلم قال: هم على ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة، وقيل: معناه إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة التذلل والانقياد، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، ولا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه قدر ذرة من نفع ولا ضر. وقيل: إلا ليعبدون، إلا ليوحدون. فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله عز وجل: (فإذا ركبوا في الفًلكِ دعوا اللّه مخلصينَ له الدّين (العنكبوت 65) الآية. اهـ من تفسير البغوي رحمه الله تعالى. قلت: وهذه الأقوال في هذه الآية، وإن كانت متقاربة والآية تسع جميعها، أرجحها الأول، وهو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إلا لآمرهم وأدعوهم لعبادتيِ، يؤيده قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إلهَ إلا هو سبحانه عما يشركون)، (التوبة 31)، وقوله تعالى: (وما أمِروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصينَ له الدينَ حنفاء)، (البينة 5) الآية، وغيرها من الآيات. ويؤيد ذلك أن الله تبارك وتعالى إنما شاء العبادة من جميع عباده، وأرادها منهم، وقضاها عليهم في الشرع لا في الكون، فمن أطاع أمره وأتى بما أراده وشاءه منه، فله رضاه والجنة، ومن خالف في ذلك، فله سخطه والنار. ولو شاء الله تعالى من جميعهم العبادة، وأرادها في الكون، لم يكن لهم بد من ذلك، ولم يكن لأحد إلى معصية الله تعالى من سبيل، ولا يخرج عن قضائه تعالى وقدره شيء من المخلوقات مثقال ذرة، فإنه لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مضاد لأمره، ولا ناقض لما أبرمه، ولا دفاع لما قدره، ولذلك قال المفسرون هذا المعنى في قوله تعالى: (وقضى رَبُّكَ ألا تعبدوا إلا إيّاه)، (الإسراء 23)، فقال ابن عباس، وقتادة، والحسن: وأمر ربك. وقال الربيع بن أنس: وأوجب ربك. وقال مجاهد: وأوصى ربك. وقرأ أبيّ بن كعب، وابن مسعود، والضحاك بن مزاحم (ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)، ولو أنه تبارك وتعالى قضى في الكون أن لا يعبد إلا إياه، لم يشرك به أحد من خلقه، وإنما قضى ذلك شرعاً؛ ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وهذه المشيئة منه للعبادة من عباده شرعاً عامة لمؤمنهم وكافرهم، وأما مشيئته للعبادة الكونية القدرية فخاصة للمؤمنين، فلهذا اتفقت فيهم المشيئتان، فوافقوا المشيئة الشرعية لما سبق لهم في المشيئة القدرية الكونية، وأما الكافر فلم يوافق المشيئة الشرعية، لما سبق عليه في المشيئة القدرية من الشقاوة. فتبين بهذا أن المشيئة الكونية القدرية لا خروج لأحد منها، ولا محيد له عنها، سواء سبقت له بالشقاوة أو السعادة. وأما المشيئة الشرعية، فمن كان سبق له في القدرية أنه يوافقها، كان كذلك، أو يخالفها كان كذلك. وأما معنى العبادة، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى وبرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصله الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر، والقراءة وأمثال ذلك من العبادة- يعني الظاهرة- وكذلك حب الله ورسوله، وخشيته والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله- يعني: الباطنة، وجماع العبادة كمال الحب مع كمال الذل، وسيأتي إن شاء اللة تعالى زيادة بحثها في بابها من المتن. أخرج فيما قد مضى من ظهر *** آدم ذريته كالذرَ وأخذا العهد عليهم أنه *** لا رب معبود بحق غيره. (أخرج) أي الله تبارك وتعالى (فيما) أي الزمن الذي (قد مضى) وذلك بعد خلقه آدم عليه الصلاة والسلام (من ظهر آدم) أبي البشر عليه السلام (ذريته) كل من يوجد منهم إلى يوم القيامة (كالذر) أي كهيئته، (وأخذ) عز وجل (العهد عليهم)، وتفسير العهد (أنه) الضمير للشأن أو الحال هو ربهم (لا رب معبود) مستحق للعبادة، ولذا قيد (بحق غيره)، وإلا فكم قد اتخذ أعداؤه من أرباب، وعبدوها بالباطل بدون حق، بل بالظلم العظيم ، قال الله تبارك وتعالى: (وَإذْ أخَذَ رَبكَ مِنْ بَني آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتهمْ وَأشَهَدَهُم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أوْ تَقُولُوا إِنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيةً مِنْ بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ وَكَذلِكَ نُفَصِّل الآياتِ وَلَعَلّهُمْ يَرْجِعُون)، (الأعراف 172- 174). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقال للرجلِ من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياَ به؟ قال فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي. أخرجاه في الصحيحين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً، قال تعالى: (ألَسْتُ بربِّكُم قالوا بلى شَهِدنا أن تقولوا يومَ القيامةِ إِنا كنَّا عن هذا غافِلينَ أوْ تقولُوا إِنَّما أشركَ آباؤُنا من قبلً وكنا ذرية)... إلى قوله (المبطلون). رواه أحمد والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد روي من طرق كثيرة موقوفاً. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية: (وإِذْ أخَذَ ربكَ من بني آدَمَ من ظهورهم ذريِّتَهم وأشهَدَهُم على أنفسِهِم ألستُ بربكم قالوا بلى) الآية، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول اللّه سئل عنها، فقال: إن اللّه خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية ، قال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال رسول الله- صلى اللخ عليه وسلم: إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بأعمال أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بأعمال أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخل به النار. رواه أحمد وأبو داود، والنسائي والترمذي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: لما خلق الله آدم، مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثمِ عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلاَ منهم، أعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له داود. قال: رب، وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها لابنك داود؟ قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته. ونسي آدم، فنسيت ذريته. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم، ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرح مسلم، ولم يخرجاه، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره نحو ما تقدم إلى أن قال: ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم، هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم: يا رب، لم فعلت هذا بذريتي؟ قال: كي تشكر نعمتيَ. وقال آدم: يا رب، من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نوراً؟ قال: هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك. ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم. وعن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، ثم قال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار. فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار. رواه ابن جرير، وابن مردويه، من طرق عنه. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما خلق الله الخلق وقضى القضية، أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله، فقال: يا أصحاب اليمين، فقالوا: لبيك وسعديك. قال ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قال: يا أصحاب الشمال، قالوا: لبيك وسعديك. قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم خلط بينهم. فقال له: يا رب، لم خلطت بينهم، قال: لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم. رواه ابن مردويه، وفيه جعفر بن الزبير، وهو ضعيف. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخرج اللّه ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر، وهو في أذى من الماء. رواه ابن جرير. وله عنه رضي الله عنه قال: إن الله تعالى مسح صلب آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالرزق. ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به، نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به، لم ينفعه الميثاق الأول. ومن مات صغيراً قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة. وله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، قال: أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. وصحح ابن كثير وقفه. وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه في قوله تعالى: (وإذ أخَذَ ربُّكَ من بني آدمَ من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدهم على أنفُسِهِم ألستُ بربِّكم قالوا بلى) الآيات، قال: فجمع له يومئذ جميعاً ما هو كائن منه إلى يوم القيامة، فجعلهم في صورهم، ثم استنطقهم، فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا بلى. الآية، قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم، أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً، وإني سأرسل إليكم رسلاً ليذكروكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذ بالطاعة، ورفع أباهم آدم، فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب، لو سويت بين عبادك، قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج، عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول تعالى -: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم)، (الأحزاب 7) الآية، وهو الذي يقول: (فاقم وجْهَكَ للدينِ حنيفاً فِطْرةَ اللّه)، (الروم 30) الآية، ومن ذلك قال: (هذا نذيرٌ مِنَ النُّذرِ الأولى)، (النجم 56)، ومن ذلك قال: (وما وَجَدْنا لأكثَرِهم مِنْ عَهْد)، (الأعراف 102) الآية، رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه. وفي البغوي قال مقاتل وغيره من أهل التفسير: إن اللّه تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء، كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء، كهيئة الذر، فقال: يا آدم، هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال، ثم أعادهم جميعاً في صلبه، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول: (وما وَجَدْنا لأكثرهم من عهد)، وقال بعض أهل التفسير: إن أهل السعادة أقروا طوعاً وقالوا بلى. وأهل الشقاوة قالوا تقية وكرها. وذلك معنى قوله تعالى -: (وله أسلم من في السماوات والأرضِ طوعاً وكرهاً). واختلفوا في موضع الميثاق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة. وروي عنه أيضاً أنه بدهناء من أرض الهند، وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه، وقال الكلبي: بين مكة والطائف، وقال السدي: أخرج آدم عليه السلام من الجنة، فلم يهبطه من السماء، ثم مسح ظهره فأخرج ذريته. وروي أن اللّه تعالى أخرجهم جميعاً وصورهم، وجعل لهم عقولاً يعلمون بها، وألسناً ينطقون بها، ثم كلمهم قبلاً- يعني: عياناً- وقال: ألست بربكم؟ وقال الزجاج: وجائز أن يكون اللّه تعالى جعل لأمثال الذر فهماً تعقل به، كما قال تعالى -: (قالتْ نملةٌ يا أيها النَّملُ ادخلوا مساكِنَكُم)، (النمل 18). قال البغوي: فإن قيل ما معنى قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)، وإنما أخرجهم من ظهر آدم؟ قيل: إن اللّه تعالى أخرج ذرية آدم، بعضهم عن ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في الترتيب، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه، وأخرجوا من ظهره. قوله تعالى -: (وأشْهَدَهًم على أنْفُسِهم ألست بربِّكم قالوا بلى) أي أشهد بعضهم على بعض، قوله: (شهدنا أن تقولوا) قرأ أبو عمرو أن يقولوا، أو يقولوا، بالياء فيهما، وقرأ الآَخرون بالتاء فيهما. واختلفوا في قوله (شهدنا)، قال السدي: هو خبر من الله عز وجل عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إِقرار بني آدم. وقال بعضهم: هو خبر عن قول بني آدم، أشهد الله بعضهم على بعض، فقالوا: بلى شهدنا. وقال الكلبي: ذلك من قول الملائكة، وفيه حذف تقديره: لما قالت الذرية بلى، قال الله عز وجل للملائكة: اشهدوا، قالوا: شهدنا. قوله: (أن يقولوا) يعني: وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا أي لئلا يقولوا، أو كراهية أنْ يقولوا. ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام أخاطبكم، ألست بربكم لئلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أي عن هذا الميثاق والإقرار، فإن قيل كيف يلزم الحجة واحداً لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله تعالى الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره، كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر صاحب المعجزة. قوله: (أو تقولوا إِنَّما أشْرَكَ آباؤنا مِنْ قَبل وكنَّا ذريةً من بعدهم)، يقول: إنما أخذ الميثاق عليكم؛ لئلا تقولوا أيها المشركون: إنما أشرك آباؤنا من قبل، ونقضوا العهد، وكنا ذرية من بعدهم، أي كنا أتباعاً لهم، فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عذراً لأنفسكم، وتقولوا: (أفتهلِكُنا بما فَعَلَ المبطلون) أفتعذبنا بجنايةِ آبائنا المبطلين؟ فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد (وكَذَلك نفصِّلُ الآيات) أي نبين الآيات؛ ليتدبرها العباد (ولعلهم يرجعون) من الكفر إلى التوحيد. ا هـ. البغوي. وقال ابن كثير- رحمه الله تعالى: وذهب طائفة من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد، إنما هو فطرهم على التوحيد، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة. وفي رواية: على هذه الملة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء. أخرجاه. وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وعن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه، ثم قال: ما بال أقوام يتناولون الذرية؟ فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: إن خياركم أبناء المشركين. ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها وينصرانها. قال الحسن: ولقد قال الله تعالى في كتابه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)، قالوا: ولهذا قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم)، ولمِ يقل من آدم (من ظهورهم)، ولم يقل من ظهره (ذرياتهم) أي جعل نسلهم جيلاَ بعد جيل، وقرناً بعد قرن، كقوله تعالى: (وَهُوَ الّذي جَعَلَكُم خلائفَ الأرض)، (الأنعام 165)، وقال: (ويجعلكم خلفاء الأرض) وقال تعالى: (كما أنْشَأكُم من ذريةِ قَوْم آخرين)، (الأنعام 133)، ثم قال تعالى: (وأشْهَدَهَم على أنْفُسِهم ألستُ بربِّكم قالًوا بلى) أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالاً، قال: والشهادة تكون بالقول، كقوله تعالى: (قالوا شهدنا على أنفسنا) الآية، وتارة تكون حالاً، كقوله تعالى: (ما كَانَ للمشركينَ أنْ يَعمروا مساجِدَ اللّه شاهدينَ على أنْفُسِهِم بالكُفر)، (التوبة 17) أي حالهم شاهد عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: (وإنَّهُ على ذَلِكَ لشهيد)، (العاديات 7)، كما أن السؤال تارة يكون بالمقال، وتارة يكون بالحال، كقوله تعالى: (وآتاكُم مِنْ كُلِّ ما سألْتموه) ، (إبراهيم 34)، قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الِإقرار بالتوحيد، ولهذا قال تعالى: (أن تقولوا) أي لئلا تقولوا يوم القيامة (إنا كنا عن هذا غافلين) أي عن التوحيد، (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا) الآية ا هـ. قلت: ليس بين التفسيرين منافاة ولا مضادة ولا معارضة، فإن هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة، الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم (ألَسْتُ بربِّكُم قالوا بلى) الآَيات ، وهو الذي قاله جمهور المفسرين- رحمهم اللّه- في هذه الآيات، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما. الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة، وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول، كما قال تعالى: (فَأقم وَجْهَكَ للدينِ حَنيفاً فِطْرةَ اللّه التي فَطَر النَّاسَ عليها لَا تَبْديلَ لِخَلْقِ الله)، (الروم 30) الآية، وهو الثابت في حديث أبي هريرة، وعياض بن حمار، والأسود بن سريع رضي الله عنهم، وغيرها من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما. الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب تجديداً للميثاق الأول، وتذكيراً به (رُسًلاً مُبَشّرينَ وَمُنْذرين لِئلا يَكونَ للنّاسِ على اللّه حجةً بعْدَ الرُّسل وكانَ اللّه عزيزاً حكيماً)، (النساء 165)، فمن أدرك هذا الميثاق، وهو باق على فطرته التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول، فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقاً لما في فطرته، وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد. ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه، وهوّده أبواه أو نَصَّراه أو مَجَّساه، فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته، فرجع إلى فطرته، وصدق بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، نفعه الميثاق الأول والثاني، وإن كذب بهذا الميثاق، كان مكذباً بالأول، فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه، حيث قال: (بلى) جواباً لقوله تعالى: (ألست بربكم)، وقامت عليه حجة الله، وغلبت عليه الشقوة، وحق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء. ومن لم يدرك هذا الميثاق، بأن مات صغيراً قبل التكليف، مات على الميثاق الأول على الفطرة، فإن كان من أولاد المسلمين، فهم مع آبائهم، وان كان من أولاد المشركين، فالله أعلم بما كان عاملاً لو أدركه، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال- صلى الله عليه وسلم: الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين. وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين، فقال- صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بما كانوا عاملين. وبعد هذا رسله قد أرسلا *** لهم وبالحق الكتاب أنزلا لكي بذا العهد يذكروهم *** وينذروهم ويبشروهم كي لايكون حجة للناس بل *** للّه أعلى حجة عز وجل فمن يصدقهم بلا شقاق *** فقد وفى بذلك الميثاق وذاك ناجٍ من عذاب النار *** وذلك الوارث عقبى الدار ومن بهم وبالكتاب كذبا *** ولازم الإعراض عنه والإبا فذاك ناقض كلا العهدين *** مستوجب للخزي في الدارين. (وبعد هذا) أي الميثاق الذي أخذه عليهم في ظهر أبيهم، ثم فطرهم وجبلهم على الإقرار به، وخلقهم شاهدين به (رسله) بإسكان السين للوزن مفعول أرسل مقدم (قد أرسلا) بألف الإطلاق (لهم) أي إليهم (وبالحق) متعلق بأنزل أي بدين الحق، (الكتابَ) جنس يشمل جميع الكتب المنزلة على جميع الرسل (أنزلا) بألف الإطلاق، والأمر الذي أرسل الله تعالى به الرسل إلى عباده، وأنزل عليهم به الكتب، هو (لكي بذا العهد) الميثاق الأول (يذكروهم) تجديداً له، وإقامة لحجة الله البالغة عليهم، (وينذروهم) عقاب الله إن هم عصوه ونقضوا عهده، (ويبشروهم) بمغفرته ورضوانه إن هم وفوا بعهده، ولم ينقضوا ميثاقه، وأطاعوه وصدقوا رسله، والحكمة في ذلك لـ (كي لا يكون حجة) على الله عز وجل (للناس بل لله) على جميع عباده (أعلى حجة) أبلغها وأدمغها (عز) سلطانه، (وجل) شأنه عن أن يكون لأحد عليه حجة، كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل، والمصدق لما جاءوا به، وكتابه مصدق لما بين يديه مما معهم من الكتب، ومهيمن عليه (إنَّا أوْحينا إليكَ كما أوْحينا إلى نُوحٍ والنَّبيينَ مِنْ بَعْدِهِ وأوحينا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإِسحاقَ ويعقوبَ والأسباط وعيسى وأيّوبَ ويونسَ وهارونَ وسليمانَ وآتينا داودَ زبوراً. وَرُسلاً قَدْ قصصناهُم عَلَيْكَ مِنْ قبل وَرُسُلاً لم نَقْصُصهم عليك وَكَلَّمَ اللِّه موسىِ تكليماً. رسلاً مُبَشرينَ ومنذرينَ لئلا يكونَ للناس على اللّه حجة بَعْدَ الرُّسل وكان اللّه عزيزاً حكيماً) (النساء:163- 165)، وقال تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم: (قُل يا أيُّها الناسً إِنّما أنا لَكُم نذيرٌ مبين. فالذين آمنوا وَعَمِلوا الصالحاتِ لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريم. والذين سَعَوا في آياتنا معاجزينَ أولئكَ أصحابُ الجحيم) (الحج: 49-51)، وقال تعالى له- صلى الله عليه وسلم: (إِنا أرسلناكَ شاهداً ومُبَشِّراً وَنَذيراً. وداعياً إلى اللّه بإِذنِهِ وسراجاً منيراً وَبَشِّر المؤمنينَ بأنَّ لَهُم مِنَ الله فضلاً كبيراً)، (الأحزاب 45-47) الآيات. وقال تعالى له: (إِنْ أنْتَ إلا نذير)، وقال تعالى: (قل إِنما أعِظُكم بواحدةً أنْ تقوموا للّه مَثّنى وفُرادى ثم تتَّفكروا ما بِصاحِبِكم مِنْ جِنَّة إِن هُو إلا نذير لَكم بينَ يديّ عذاب شديدة)، (سبأ 46) الآيات. وقال تعالى: (فاتَّقوا النارَ التي وَقُودها النَّاسُ والحًجارةُ أعِدّتْ للكافرينَ وَبشِّر الذين آمنوا وَعَملوا الصالحاتِ أنَّ لَهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار) (البقرة 24- 25) الآية. وغير ذلك من الآيات التي يخبر الله تعالى فيها أنه ما أرسل من رسول إلا داعياً إلى عبادة الله عز وجل لا شريك له، والكفر بما سواه من الأنداد، ومبشراً لمن صدقه وأطاعه بالجنة، ونذيراً لمن كذبه وعصاه من النار. ثم أخبر تعالى أن المراد بذلك (لِئلا يكونَ للناسِ على اللّه حجةٌ بَعْدَ الرُّسل) (النساء 165)، وقال تعالى: (قُلْ فللَهٍ الحجةُ البالغة)، (الأنعام 149). وتقدير البحث في الرسالة، واتفاق الرسل في دعوتهم يأتي في بابه، إن شاء الله عز وجل. (فمن يصدقهم) يعني الرسل (بلا شقاق) تكذيب ولا مخالفة (فقد وفى) لربه عز وجل (بذلك الميثاق) العهد الأول، وهؤلاء هم القليل من الثقلين، ولكن هم جند اللّه الغالبون المنصورون في الدنيا، وحزبه المفلحون الفائزون في الآَخرة، وجواب الشرط (فذاك ناج من عذاب النار) إذ لم يرتكب أسباب دخولها من معصية الله، وتكذيب رسله، كما ارتكب ذلك من خلق لها، (وذلك الوارث عقبى الدار) وهي الجنة لفعله أسبابها التي أمره الله- عز وجل- بها من الوفاء بعهد الله وميثاقه، وتصديق رسله وكتبه، والعمل بجميع طاعته، تبارك وتعالى. (ومن بهم) أي بالرسل (وبالكتاب) أي الكتب التي أنزل الله عليهم ليبلغوها إلى عباده، ويبينوها ليعملوا بما فيها (كذبا)، (ولازم الإعراض عنه) عما أرسل الله به رسله (والإبا) أي الامتناع، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون)، (غافر 70) الآيات، وقال تعالى فيهم: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)، (طه 124) الآيات وغيرها، وهؤلاء أكثر الثقلين كما قال الله تبارك وتعالى: (فأبى أكثر الناس إلا كفورا)، (الإسراء 89)، وقال تعالى: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)، (الأعراف 102)، وقال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، (الأنعام 116) وغير ذلك من الآيات، وجواب الشرط (فذاك) أي المكذب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله، الآبي منه، المعرض عنه، المصر على ذلك حتى مات عليه هو (ناقض كلا العهدين) الميثاق الذي أخذه الله عليه، وفطره على الإقرار به، وما جاءت به الرسل من تجديد الميثاق الأول، وإقامة الحجة (مستوجب) بفعله ذلك (للخزي في الدارين) أي في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين)، (القصص 42)، وقد وفى بذكر الفريقين الموفين بالعهد والناقضين له، وما لكل منهم وما عليه في الدنيا والآخرة، قول الله عز وجل: (للذين استجابوا لربهم) أي فيما دعاهم إليه على ألسنة رسله، وهم الفريق الأول (الحسنى) الجنة (والذين لم يستجيبوا له) وهم الفريق الثاني (لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد)، (الرعد 18)، وتأويل ذلك ما ورد في الصحيحين من طرق عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله- تعالى- لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي. وقد تقدم ذكره قريباً. (أفَمن يَعْلم أنَّما أنزل إليكَ مِنْ ربِّكَ الحق) يعني الفريق الأول، (كمن هو أعمى) يعني الفريق الثاني، لا والله ليسوا سواء (إِنّما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بِعَهْدِ اللّه ولا ينقضونَ الميثاق) يتناول كل العهود والمواثيق التي أمر الله عز وجل بالوفاء بها مع الحق ومع الخلق، وتناولها للميثاق المذكور من باب أولى (والذين يَصِلون ما أمَرَ اللّه به أنْ يُوصل) من صلة الأرحام، ومن الإيمان بالله ورسله، وعدم التفريق بين أحد منهم، (ويخشونَ رَبَّهم ويخافونَ سوءَ الحساب والذين صَبَروا) على قدر الله، وعلى ملازمة طاعته، وعن معصيته (ابتغاء وَجْهِ ربّهم وأقاموا الصلاةَ وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنةِ السيئة أولئك لهم عقبى الدار). فكأنه قيل: ما هي؟ فقال تعالى: (جنات عدن يدخلونها وَمَنْ صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذريّاتِهم والملائكةُ يدخلونَ عليهم مِنْ كلِّ باب سلامٌ عليكم بما صبرتم فَنِعم عقبى الدار). ثم ذكر الفريق الثاني بصفاتهم السيئة وبين جزاءهم عليها والعياذ بالله تعالى، فقال تعالى: (والذين ينقضونَ عَهدَ اللّه مِنْ بَعْد ميثاقه ويقطعونَ ما أمَر اللّه بِه أن يُوصل وَيُفسِدونَ في الأرض أولئك لَهُم اللعنةُ ولهم سوء الدار)، (الرعد 18- 25)، فسبحان الله وبحمده، ما أبلغ حكمته، وأعدل حكمه، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
|